وأما الطعن بمخالفته للكتاب، فأين في الكتاب ما يدل على خلافه؟ فالشارح ما نقل لنا كلاماً عن النسفي في مخالفته للكتاب؛ لأن هذه الشبهة مركبة من شيئين: الأول: الشك الذي وقع فيه الراوي، والثاني: أن الحديث مخالف للكتاب، وكأنه يقول: اجتمع فيه مخالفته للقرآن وشك راويه، فالحديث لا يحتج به في هذا الباب، وقد أبطلنا ما يتعلق بالراوي وضبطه وشكه، وبقي المخالفة للكتاب، فما الشبهة التي جعلت هؤلاء يقولون: إنه مخالف للقرآن؟ إن من أصول مذهب الحنفية في رد حديث الآحاد أن يخالف ظاهر القرآن، وهو مما ينتقد في مذهبهم، ويرد عليهم في هذه القضية بردود، لكن نحن الآن نقتصر على هذا الموضوع، فإن من أكبر شبهاتهم كما ذكرنا سابقاً: أن الإيمان هو ما في القلب، وأن الأعمال عطفت عليه، فظاهر القرآن في آي كثيرة جداً ربما تقارب المائة أو تزيد: (( الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ))[البقرة:25] فيعطف العمل على الإيمان، والمعطوف غير المعطوف عليه، لكن نقول: ظاهر القرآن فيه أمران: أعمال صالحة وإيمان، وهذا مغاير لهذا، أما الحديث فهو يجعل هذه الأعمال أجزاء وشعباً من هذا، فحصل في نظرهم الاختلاف والتضاد، فهناك مخالفة بين ظاهر القرآن والحديث.
والجواب على ذلك: أن العطف لا يقتضي المغايرة من كل الوجوه، بل ربما عطف الخاص على العام لبيان أهميته، مثل قوله تعالى: (( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ ))[الأحزاب:72]، فالجبال جزء من الأرض وهكذا، والشيخ رحمه الله قد أعرض عن الكلام في هذه الشبهة؛ لأنها أقل من أن يشتغل بالرد عليها، ثم إنه لا تعارض بين القرآن وبين الحديث، بل إن في القرآن ما يدل على الحديث ويوافقه، وقد قال رحمه الله: وإنما فيه ما يدل على وفاقه. مثل أن القرآن سمى بعض الأعمال إيماناً، كقوله تعالى: (( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ))[البقرة:143]، أي: ليضيع صلاتكم، فسمى شعبة من شعب الإيمان إيماناً؛ ونحن نجزم والحنفية المرجئة كافة بذلك، وليس المقصود: ما كان الله ليضيع تصديقكم باليوم الآخر، ويقينكم بالبعث وبالكتب، وبالرسل؛ لأن هذا ليس هو موضع الإشكال والخلاف الذي وقع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وإنما كان الخوف أن تكون صلاة الصحابة إلى بيت المقدس قد ردت وبطلت وحبطت بتحويل القبلة إلى الكعبة المعظمة، فخافوا على ما صلوا، أو ما صلى إخوانهم الذين ماتوا قبل أن تتحول القبلة، فطمأنهم الله تبارك وتعالى فقال: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ)، أي: لن تضيع صلاتكم وعبادتكم التي هي جزء من الإيمان، وليس المقصود أصل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، فنحن وهم متفقون عليه، وعلى هذا فإن القرآن قد سمى شعبة من شعب الإيمان إيماناً، والحديث يقول: (الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبة) فبذلك اتفق القرآن والحديث، ولا شك أنه لا يمكن أن يتناقض شيء من الحق، والحق إنما هو في القرآن والسنة معاً وليس في أحدهما فقط، ولا يمكن أن تتناقض آية وآية، ولا أن يتناقض حديث صحيح وآية أبداً؛ ولذلك نحن نقول: لو أن حديثاً ما خالف صريح القرآن، فلا ريب أن هذا يعد طعناً في هذا الحديث، ويتأمل فيه من أين جاء هذا اللفظ؟ ولا يكاد يوجد شيء من هذا إلا قلة يعرفها العلماء النقاد الذين هيئهم الله تبارك وتعالى لهذا الدين، فحفظوه وعلموه، فيعلمون نقد المتن كما يعلمون نقد السند، وهؤلاء الأئمة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم هم النقاد، وهم الصيارفة في هذا الفن، وهم الذين يعرفون الراجح من المرجوح، وإن جاءت رواية ففي كتب السنة روايات أخرى تبين المراد؛ ولذلك فإن الصحيحين -وهما أصح الكتب بعد كتاب الله تبارك وتعالى- فيهما ألفاظ غير صحيحة، لكن هذا لا يؤثر في صحة الكتابين فضلاً عن أن يؤثر في صحة السنة كلها، وبالتالي فأيما حديث انتقد في الصحيحين فإن هذا اللفظ -الذي ثبت أن النقد فيه صحيح- بذاته هو الذي يرد، لكن قد يصح الحديث بألفاظ أخرى غير هذا اللفظ، وقد يصح في كتب أخرى خارج الصحيحين ، فالسنة محفوظة في جملتها والحمد لله، وقد حفظها الله تبارك وتعالى بهؤلاء الرجال، فلا يأتي أحد ويقول بمجرد عقله وهواه أو رأيه: إن هذا الحديث مخالف للقرآن أو لظاهر القرآن فيرد، والأصل الذي أصله الحنفية في هذا الباب مردود، والأمثلة في هذا العصر الحديث، على هذا كثيرة جداً، وقد ناقشنا أحد الذين انتهجوا المنهج العصري العقلاني، والذي رد بعض الأحاديث الصحيحة، بزعمه أنها معارضة للقرآن، مثل: قوله عليه الصلاة والسلام: ( لا يقتل المسلم بالكافر )، فجاء هؤلاء وقالوا: إن الله تبارك وتعالى يقول: (( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ))[المائدة:45]، فالمسلم يقتل بالكافر، وقال الشيخ محمد الغزالي قولاً عظيماً في هذا: فلنفرض أن خبيراً أمريكياً قتله فلاح صعيدي مسلم، ألا نقتله به؟! قلنا: إن هذا التمثيل يدل -والعياذ بالله- على مرض الذي في القلوب: وهو تعظيم الكفر وأهله، واستفضاع -في نظره- أن يقتل خبير أمريكي، فلا يقتص من القاتل الذي هو مجرد فلاح، فالنظرة ليست نظرة الكفر والإيمان، وإنما النظرة إلى الفلاح وإلى الخبير، وإلى كون هذا عربياً أو مصرياً، وكون ذاك أمريكياً، وقلنا: إن هذا دليل على أن الحامل لهم على هذا ليس النظر في الأدلة، ولو تعارضت الأدلة ونظر العالم أو المجتهد في الأدلة وأخطأ فالخطأ مغفور له، لكن المشكلة إذا كان هؤلاء يصدرون عن مرض في قلوبهم، ويستفضعون ويستكبرون أن يقارن هذا بهذا، أما المؤمن بالله واليوم الآخر فيعلم أن أدنى عامي من المسلمين هو خير من ملئ الأرض من أكبر زعيم من زعماء الكفر، أو عالم من علماء الكفر؛ لأن المعيار هو الإيمان بالله تعالى؛ ولذلك الحديث في الصحيحين وغيرهما بطرق كثيرة: ( لا يقتل مسلم بكافر ). هو الذي يجب أن يعمل به، وقد عمل به المسلمون ولله الحمد، وطعن هؤلاء فيه غير مؤثر، وإنما طعنهم يدل على مرض قلوبهم، أما ما يقوله الحنفية وأمثالهم، فهو اجتهاد خطأ مردود عليهم، لكن ما كان فقهاء الحنفية يتكلمون بهذا القول مستدلين بمثل هذا الدليل الذي يدل على أن المسألة هي نظرة غربية أكثر من كونها استدلالاً واستنباطاً، فمثلاً عندما يقول الحنفية: ( إن النبي صلى الله عليه وسلم حكم وقضى في الزاني البكر: بجلد مائة وتغريب عام )، فيقولون: لا نعمل بالتغريب؛ لأنه زيادة عما في القرآن، والزيادة نسخ، والسنة لا تنسخ القرآن، وهذا مذهبهم، وهو خطأ ومردود، لكن مع ذلك هؤلاء لهم أجر الاجتهاد؛ لأنهم بأصولهم الفقهية هذه ما أرادوا بها محادة أو مضادة النص، وهذه في الجملة، ولا نعني كل واحد منهم، فربما يوجد منهم من يكون اتباعه للرأي أو للقياس آثر عندهم من اتباع الحديث، فيكون مريضاً مرض القلب والعياذ بالله، أما هؤلاء العصريون أو العقلانيون أو مهما سموا أنفسهم فإنهم أبعد شيء عن العقل في الحقيقة؛ لأن العقل السليم يوافق النقل السليم، أما كونهم عصريين فنعم؛ لأنهم يريدون أن يسخروا الدين والقرآن والشريعة لمقتضيات العصر كما يزعمون، والمقصود أن هذه الشبهات مردودة، وأنه كما ذكر الشيخ رحمه الله: وإنما هذا الطعن ثمرة شؤم التقليد والتعصب، أي: أنه لا يصدر هذا الطعن في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من كان في قلبه مرض، إما مرض التعصب والتقليد كما هو حال هؤلاء الحنفية، وإما مرض الإعجاب بالكفار، بل ربما نقول: إن تفضيل الكفار على المسلمين -نسأل الله العفو والعافية- هو مرض خطير ويدل على نفاق كبير، وربما أخرج صاحبه من الملة نسأل الله العفو والعافية، لو التزم لازم هذا القول.